advertisement

حياة الحاكم بأمر الله ،سياسته واهم اعماله

advertisement

على الرغم من أن الحاكم بأمر الله كان في سن صغيرة حوالي السادسة من عمره عندما بدأ يتولى مهام الدولة وشؤونها، إلا أنه كان يتمتع بقوة ونشاط مدهش في تدبير شؤون الحكم. كان يتدخل في الأمور بنفسه ويتعاون مع وزرائه في اتخاذ القرارات. كان ذو قوام قوي ومظهر جبار، وكانت لديه ملامح حادة وعينان كبيرتان سوداوتان تعطيه نظرات حادة تشع بالرعب مثل نظرات الأسد، وكان له صوت قوي مرعب يثير الرعب في قلوب السامعين.ويمتلك الحاكم بأمر الله خلفية قوية من أسرة جبارة صحراوية، مثل المعز بدين الله والعزيز بالله وغيرهم من أبطال القوة والعزة. وقد ورث الحاكم هذه الصفات الطبيعية الرائعة من والده العزيز بالله الذي كان قويًا وشجاعًا وعريض الكتفين. ولم يهدر هذه الصفات في شهوات النفس، بل استخدمها في خدمة الدولة.

advertisement

حياة الحاكم بأمر الله

حياة الحاكم كانت خاصة للغاية. يعيش بنفس البساطة التي يظهر بها في حياته العلنية. عندما تولى الحكم في سن مبكرة، قد ألزمه هذا الدور الحاكمي بعدم الانغماس في المتع العابثة التي يشتهيها شباب في سنه وظروفه. بالفعل، كان لدى الحاكم ميول صوفية فلسفية، حيث رأى في التقشف والبساطة قيمًا يحترمها وازدراءً للحياة الدنيا وشهواتها المادية.

تذكر بعض الروايات أن الحاكم كان يمتنع عن تناول الخمر، كما حرمها على رعاياه. ولكنه تخلى عن هذا الحرمان عندما نصحه طبيب مسيحي بتناول النبيذ لأغراض صحية. بعد ذلك، انجذب الحاكم إلى الشراب وأقام مجالس سمر وغناء. وعند وفاة الطبيب، توقف عن شرب الكحول وعاد إلى تحريم النبيذ. يقال أيضًا إن الحاكم كان مهووسًا بالنساء وكان لديه مجموعة من الخطايا والجواري. ومع ذلك، قام الحاكم في يوم من الأيام بتبني نزعة الصوفية وطرد معظم هؤلاء النساء من قصره، وحتى يقال إنه غمر بعضهن في صناديق وأبقاهن فيها في سخرية. في نهاية حكمه، اتجه الحاكم إلى النسك المطلق والزهد والورع، وتقيد بأبسط أنواع الطعام للاحتياجات الأساسية.

advertisement

شخصيته

كان الحاكم يلبس ثيابًا بسيطة ويتجنب الاستحمام بشكل مبالغ فيه، مما يعكس قسوة وتقشفًا. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن عقلية الحاكم بسيطة كما يصور، بل كانت تعقيدًا ومكرًا. وصفه الذهبي بأنه كان شخصًا خبيثًا وماكرًا وضعيفًا في الاعتقاد. كان يتناقض في تصرفاته، لكنه كان يسعى بذهنه المتقلب إلى تحقيق أهداف محددة. لاحظ بعض المؤرخين أن عقلية الحاكم لم تكن بسيطة كما يعتقدون، بل كان لها ألغاز وصعوبة في الفهم. كان يتسم بالغموض والتفكير العميق، وكان يشكل تحديًا للمؤرخين من جميع العصور.

الحاكم بأمر الله كان شخصية فريدة ومدهشة، وكان له طابع خفي وغامض يثير الدهشة والإعجاب في تصرفاته العامة. كان يتجاوز حدود هذا العالم ويتلاعب بأقدار الناس ومصائرهم. كان يترك بصمته على عصره بطابعه الخاص، ولم يكن الحاكم بأمر الله شخصية تافهة وسطحية كما يصورها التاريخ. كان عقلاً بعيد المدى، مبدعًا وذهنًا متقدمًا يتجاوز مجتمعه ويقود عصره نحو التغيير والتطور. لذلك، يجب على العالم أن يعترف بعبقريته وأن تأخذ شخصيته مكانها الحقيقي في التاريخ.

الخطر يهدد الحاكم وولايته

advertisement

تم الاعتداء على الحاكم وولايته بواسطة الخطريين، مما دفع “برجوان” إلى اتخاذ إجراءات لحماية نفسه ونظامه. أعلن “بنجوتكين”، القائد العسكري للقوات الشامية، استعداده للتصدي للخطر ومواجهته. من جانبه، قام “ابن عمار” بالتحضير للقتال وأعلن تضامنه مع “بنجوتكين” وقواته. توجه الجيشان إلى منطقة عسقلان حيث التقوا ودارت المعركة. انتصر “بنجوتكين” وهزم الخطريين، في حين عفا “ابن عمار” عنهم.

بعد ذلك، شهدت كتامة تصاعدًا في الفساد واستغلال السلطة. تم تهميش أصدقاء “برجوان” وإقصاؤهم من المناصب الرفيعة، بما في ذلك “ابن الصمصامة”. تم لفت الانتباه إلى تفوق كتامة وزعمائها في كل شيء، وأن نفوذ “برجوان” والصقالية يتلاشى. وفقًا للمؤرخين، استمرت قوة ونفوذ “برجوان” لمدة عامين ونصف، حيث شهدت الشام والمغرب عدة انتفاضات واضطرابات. حاول بعض الحكام والزعماء المحليين الانقلاب على حكومة القاهرة، لكن “برجوان” قاد جيشًا إلى الشام بقيادة “بن الصمصامة” وقاتل الثوار وأعاد الاستقرار تدريجيًا واستعادت دمشق. كما تواجهت قواته مع البيزنطيين في معارك عدة في شمال الشام.

تم استعمال القوة العسكرية لاستعادة النظام في تريبولي، وكانت الدولة الفاطمية تعتمد على القبائل المغربية. تصاعد التنافس بين “برجوان” والزعماء المغاربة، حيث كانت سياسة “برجوان” تهدف إلى تقويض نفوذهم وإزاحتهم عن الولايات والمواقع الاستراتيجية، وتوزيع السلطة على أصدقائه الصقليين الذين يمكنهم الاعتماد عليهم وتنفيذ أوامره. تم تعيين عدد منهم لحكم الولايات والمواقع الحساسة، وقد ازداد تواجدهم في القصور بحسب مقريزي.

الحاكم بأمر الله خلال الفترة الأولى من خلافته

advertisement

خلال الفترة الأولى من خلافته، كان الحاكم بأمر الله محجوبًا عن شؤون الدولة ومستثمرًا في مجالس اللهو واللعب، وذلك وفقًا لتقارير المؤرخين. والحاكم كان ينمو ويترعرع تحت هذا الوصاية الخطرة، بينما كانت أمه غير قادرة على التدخل أو توجيهه، نظرًا لعدم منح برجوان لها أي فرصة للتأثير في شؤون الدولة.

ويشير التقرير إلى أن الحاكم، على الرغم من صغر سنه، كان يدرك خطورة المنصب الذي يتولاه، وسرعان ما أظهر اهتمامًا بتطورات الأمور. أدرك أيضًا الموقف الذي وصل إليه برجوان واستغلاله للسلطة واستبداده في الشؤون. وعندما بلغ برجوان قمة السلطة والنفوذ، كان الحاكم قد أصبح في الخامسة عشرة من عمره، فأصبح فتىً شابًا طموحًا وذكيًا للغاية.

وفي ذروة سلطته ونفوذه، غرق برجوان في تجاوزاته وتصرفاته الفجة، وأثار حوله الكراهية والحقد. تصور برجوان أنه مطلقًا في سلطانه ومكانته، وأمضى معظم وقته في مجالس الترفيه والغناء والمتعة.

ومن ناحية أخرى، لم يدرك برجوان تطور وتبدل مشاعر الحاكم، فاستمر في معاملته مثل الطفل المحجوب وزاد من حجبه تحت ذريعة حمايته والاهتمام براحته. وتجاهل برجوان مدى عدم انسجام سلوكه مع مكانة ومقام الحاكم، مما أثار شعور الحاكم بعدم التوافق مع وضعه ومكانته.

برجوان يهين سيده الحاكم بأمر الله

حسب ما ذكره المقريزي، في أحد الأيام استدعى الحاكم برجوان وهما راكبان سويًا، وعندما اقترب منه، قام برجله ووضعها على عنق فرسه ووضع باطن قدمه على وجه الحاكم. وكان الحاكم يحمل في داخله شرًا وقصد التخلص من هذا الوصي الطاغية، لأنه بدأ يشعر برغبة في استعادة سلطته المسلوبة. ربما تأثر الحاكم في هذا القرار بتحريض بعض خصوم برجوان الذين يرغبون في القيام بما فعله كافور مع أولاد سيد الأخشيد. ومع ذلك، لا شك أن الحاكم كان قد بدأ في تجميع قوته وانتقامه، وبدأت تنمو في داخله الرغبة القوية والأفكار المضطربة التي بلغت ذروتها فيما بعد.

advertisement

في النهاية، حُكم على برجوان بالموت وتم تنفيذ الحكم. وبهذا القرار، استطاع الحاكم أن يستعيد السيطرة على السلطة ويبدأ حقبة حكمه الحقيقية، حيث كان الحاكم في تلك الفترة يبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عامًا، وكان يملك شغفًا وعزيمة قوية، على الرغم من عواطفه المتقلبة.

بدأ الحاكم بتعيين حسين بن جوهر الصقلي مكان برجوان كمدبر للدولة وعقلها المحرك. وكان الحسين يتمتع بثقة ودعم الحاكم وعُهد إليه قيادة الدولة بعد وفاة والده جوهر. وقد أولاه الحاكم ثقته ورعايته. وعندما تم قتل برجوان، لم يكن هناك رجلًا في دائرة السلطة يتفوق على الحسين مقامًا، لذا استدعاه الحاكم وأقال برجوان وعين الحسين مكانه، وألقبه في سجل التعيين بلقب “قائد القواد”. ويجدر بالذكر أن الحسين كان يدير الشؤون العامة بمساعدة خليفته الرئيس فهد. كما أمر الحاكم بتبليغ المهام والتوجيهات إلى الحسين في قصره، ولم يُسمح لأحد بمنع الوصول إليه أو التحدث معه دون تصريح رسمي. وقد بدأ الحاكم بتولي إدارة الدولة بنفسه، وأنشأ مجلسًا ليليًا يحضره الأكابر ورجال الدولة، حيث يتم مناقشة الشؤون العامة. وكانت هذه هي أول مظهر لشغف الحاكم بالليل وتجواله في ظلماته.

عصر حكم الحاكم بأمر الله

عصر حكم الحاكم بأمر الله كان بالفعل أغرب عصر في تاريخ مصر وربما في تاريخ الإسلام بأكمله. كان مليئًا بالغموض والروعة، وملونًا بالتناقضات المدهشة. ولكن هذه الجوانب المظلمة والمتناقضة هي التي تمنح شخصية الحاكم بأمر الله سحرًا وتطبعه بطابع مميز وغامض يصعب فهمه.

كان الحاكم بأمر الله يتغير كثيرًا في سلوكه وطبائعه. كان يميل إلى الشر والعدوانية وكان عنيفًا، ولم يتمالك نفسه عند الغضب، وقد أحدث دمارًا هائلاً وأقام سلطة عظيمة وقاموسًا قانونيًا. وكان يتراجع في قراراته ويتخذ مواقف متناقضة.

advertisement

ويذكر أن حكم الحاكم بأمر الله كان يتنوع بين الشجاعة والجبن، وبين محبة العلم والانتقام من العلماء، وبين الاهتمام بالإصلاح وقتل الصالحين. وغالبًا ما كان يميل للإصلاح وربما تبخل فيما لم يتبخل به أحد آخر.

في بعض الروايات يصفون الحاكم بأمر الله بأنه كان سمحًا ولكنه خبيث وماكر وسفاك للدماء، وقتل عددًا كبيرًا من الأشخاص الكبار في دولته، وكان يخترع بشكل مدهش أحكامًا وقرارات يضعها على الناس.

إن عصر الحاكم بأمر الله مزج بين الظلم والعدل، الإضافة والاحتجام، الأمن والفوضى، والنسك والبدعة. وكان الحاكم يتحول بين حالات متناقضة ويتحرك من حالة إلى أخرى. وكان سيئًا في سلوكه وعقيدته، وكان يسبب الاضطراب في جميع أموره، حيث كان يأمر بأمر ثم يتراجع عنه، ويبدد على الناس الشكوك والاضطرابات.

حوادث القتل والسفك التى أمعن فيها الحاكم

في فترة الحكم، شهدت حوادث القتل والسفك انتشاراً مروعاً، حيث قام الحاكم بتنفيذها بشكل متعمد وواضح. اشهرها :

  • في العام 299 هجرية، ألقى الحاكم القبض على مجموعة كبيرة من العلماء والكتاب والخدم والصقالبة في القصر، وقام بقطع أيديهم وقتلهم بلا رحمة. كما قتل الفضل بن صالح، وهو أحد قادة الجيش البارزين، الذي تمكن من قمع التمرد الذي قاده أبو ركوة وإخماده.
  • وفي العام التالي، وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم، ضحيتها علماء سنة بارزين. تم اعتقال صالح بن علي الروذ لبضعة أسابيع ثم قتله، وتم تعيين ابن عبدون النصراني بدلاً منه، وقام بتنفيذ الوساطة والسفارة. وبعده خلفه أحمد بن محمد القشوري، الذي تولى الوساطة والسفارة، ثم قتل بعد فترة قصيرة من تعيينه. ثم تم تعيين زرعة بن عيسى بن جوهر، وقام بالوساطة لفترة قصيرة قبل أن يقتل.
  • في عام 401 هجرية، شهد الحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه غين وكاتبه الجرجرائي. كان غين من بين الخدم الصقالبة الذين تعاملهم الحاكم بعطف وثقة، وتم تعيينه في عام 402 كقائد للشرطة والحسبة وحصل على لقب “قائد القواد”. وكانت له مهمة تنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية، وكان أبو القاسم الجرجرائي يكتب عنه. في وقت سابق، قام الحاكم بسخط على غين وأمر بقطع يده، وبعد ذلك سخط عليه مرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية، وتم قطعها وتقديمها إلى الحاكم في طبق. تم استعمال العناية الطبية به.
  • في عام 405 هجرية، قتل الحاكم قاضي القضاة مالك بن سعيد الفارئي ووزيره الحسين بن طاهر الوزان، وأيضًا عبد الرحيم بن السيد العالة وأخاه الحسين الذي كان متوليًا للوساطة والسفارة. تم تعيين فضل بن جعفر بن الفرات كخليفة للوساطة، ثم قتل قليلًا بعد توليه المنصب. استمر الحاكم في قتل الزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء، وقد قتل معظمهم خلال هذه السنوات المروعة. يقدر أن عدد ضحايا الحاكم وفقًا للروايات المعاصرة يصل إلى ثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات.

وكان الإرهاب في نظر الحاكم وسيلة لتحقيق الحكم، واعتمد القتل المنظم كأداة لهذا الإرهاب الشامل. إذا وصل أي زعيم أو رجل دولة إلى مستوى يشكل تهديدًا للسلطان والنفوذ، فإن القتل كان وسيلة فعالة لسحقه وسحق نفوذه. إذا ظهرت علامات استياء أو تمرد من جانب فريق من الناس، فإن القتل كان الوسيلة الأكثر فعالية لقمعهم وترويعهم. لم تكن هذه السياسة الدموية محصورة في العصور الوسطى فحسب، بل تعتمدها الأنظمة الاستبدادية الحديثة والطغاة الحاكمين لتأييد سلطتهم وتكبيد خصومهم الهزائم. يعتمدون على هذه الأساليب تحت ذريعة سلامة الدولة والأنظمة القائمة، وفي الحقيقة، تعكس رغبتهم الشخصية في السيطرة على السلطة والحفاظ عليها بأي وسيلة ممكنة، ويخشون دائمًا تهديد أي معارضة تتناولها القوى المنافسة.

اهتمام الحاكم بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية للبلاد

كان الحاكم مهتمًا بشكل كبير بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. أولاً وقبل كل شيء، كان يولي اهتمامًا خاصًا للتجارة والمعاملات التجارية. حافظ على سلامة الطرق وقضى على اللصوص والمحتالين. كما حرص على سلامة الأوزان والميزانين، وأصبحت هذه القضية ذات أهمية كبيرة في عهده.

بالإضافة إلى ذلك، أولى الحاكم اهتمامًا كبيرًا للزراعة التي ازدهرت بفضل اهتمامه بنهر النيل وفروعه، وقام بجلب بعض الأصناف الزراعية الجديدة. بلغت اهتماماته بالزراعة إلى حد استدعاء العالم الشهير الحسن بن الهيثم، الذي كان عالمًا في العلوم الطبيعية والرياضيات، من البصرة. في كتابه الرئيسي “كتاب المناظر”، قدم الحسن بن الهيثم نقدًا لنظرية أقليدس القديمة التي تفسر الرؤية بأن الأشعة تنبعث من العين إلى الأجسام المرئية، وقد قرر عكس هذا الاعتقاد، وهو المبدأ الذي تبناه الفكر الحديث فيما بعد.

يجدر الذكر أيضًا أن الحسن بن الهيثم تعهد بتعديل فيضان النيل الذي كان يشكل أساس خصوبة التربة المصرية. هذا المشروع ساهم في تطوير الأفكار التي تم تنفيذها في العصور الحديثة، بما في ذلك مشروع السد العالي.

وفيما يتعلق بالاهتمام بالعدالة في القضاء، أراد الحاكم أن يحافظ على استقلالية القضاة ويمنعهم من أخذ الأموال بشكل غير مشروع. شرط عليهم أن لا يتلاعبوا بحقوق الناس، وأمر بتعزيز مكانة القاضي حسين بن علي بن النعمان الذي أثبت نزاهته وصدقه. في بعض الأحيان، قام الحاكم بالسماح لبعض الرجال بالشهادة على عدالتهم، ولكن قاضي الشاهد أعلمه أن بعض هؤلاء الأشخاص لا يستحقون الثقة ولا يمكن الاعتماد على شهاداتهم. فاستمع لرأيه واعترف بصحة ملاحظاته، ولم يصمد في رأيه بشأنهم.

الحاكم ينشىء دار الحكمة

بأمر من الله، قام الحاكم بإنشاء دار الحكمة عام 395 هجرية عندما كان في العشرين من عمره. كانت دار الحكمة تعد مركزًا علميًا رفيع المستوى، حيث جمع الحاكم نخبة من أفضل العلماء في مختلف الفنون والعلوم. قدم لهم رواتب كبيرة ووفر لهم وسائل للتفرغ للبحث والدراسة والتأليف. كانت دار الحكمة تحتضن مكتبة عظيمة لم يتجاوز مثيلها في ذلك العصر.

كما قام الحاكم بتوفير سبل معيشية كافية للطلاب والباحثين الملتحقين بدار الحكمة، ووضع الأدوات والمصادر المعرفية تحت تصرفهم. بفضل ذلك، استمدت دار الحكمة ثروتها العلمية وتجاوزت ما كان لبيت الحكمة في بغداد يقدمه من نشاط علمي، وزادت عليه بالمزيد. ولم ييأس الحاكم في تحسين نظام التعليم في الأزهر، حيث كانت الدراسة محدودة ومتشددة من وجهة نظره. لذلك، أسس دار الحكمة لتكون مؤسسة تخدم العلم بدون تأثير مذهبي أو سياسي.

كما قام الحاكم بإنشاء نظام وإدارة خاصة لمعاونة الفقراء والمحتاجين وكذلك الفقهاء والمؤذنين في المساجد. في شهر رجب عام 403 هجرية، أصدر أمرًا بتحصين عدد كبير من الأماكن والممتلكات لصالح هؤلاء الفئات. كان الحاكم يستقبل المحتاجين في مواقع مختلفة أثناء طوافه، سواء في النهار أو الليل، ويستمع إلى احتياجاتهم ويعمل على تلبيتها، وكذلك حاجات الكثيرين الآخرين، ويوزع الصدقات على المحتاجين.

تجديد الأزهر

أيضًا، اهتم الحاكم بتحديد الجامع الأزهر وإصلاحه. أنشأ جامع الحاكم (الحاكمي أو الجامع الأنور) في عام 393 هجرية وأشرف على تجهيزه وتزيينه. ألقى خطبة الجمعة فيه وخدم المصلين. في عام 402 هجرية، أمر الحاكم بإحصاء المساجد التي لا تتمتع بدخل كافٍ، ووجد أن هناك 830 مسجدًا يحتاج إلى توفير التمويل اللازم لأداء الشعائر فيها. في عام 405 هجرية، قام الحاكم بتخصيص عدة أماكن وأملاك وقياسر للقرّاء والفقهاء والمؤذنين وتوفير دعم للمستشفيات ورواتب للعمال والموظفين وتكاليف الكفن للفقراء.

من بين أعمال الحاكم المشهورة أيضًا، أنه في عام 404 هجرية، أطلق سراح جميع العبيد الذين كانت تملكهم في القاهرة والمناطق المجاورة، وهم كانوا عددًا كبيرًا، وهب لهم كل ما يملكونه في حالة الرق ليكونوا أصحابًا لثروة في حالة العتق. كان هذا الإجراء مؤثرًا ويشهد على رفعة الفكر الإنساني وجلاله.

في العديد من المواقف، رأينا الحاكم يدعم العلم والفكر والأدب، حيث قدم منحًا سخية لأساتذة دار الحكمة عند افتتاحها ونقل الكتب من خزائن القصر لتعم الفائدة على الباحثين والطلاب الآخرين. يُذكر أن الحاكم استدعى في عام 403 هجرية أساتذة دار الحكمة من الفقهاء والرياضيين والأطباء وعقد مجلسًا للمناظرة معهم في القصر. كانت كل طائفة تأتي إلى الحاكم للمناظرة بشكل فردي، ثم كرس لهم وقتًا كافيًا وأكرمهم.

يُذكر أنه في العديد من الأحيان، تخفف الضرائب عن الشعب في حالات الأزمات العامة، ويمكن إعادتها وفقًا للظروف والأحوال. عندما تأسست دار الحكمة، كانت تفرض على المؤمنين رسمًا اختياريًا يدفعونه بناءً على إمكانياتهم المالية، وكان يُستخدم هذا المال لدعم النقباء. كانت هذه الرسم تطبق في بعض الأحيان وتُلغى في أحيان أخرى.

الحاكم يتبع نظام التجسس

يشار إلى أن الحاكم، بأمر من الله، قام بتطبيق نظام التجسس كوسيلة للرقابة في المملكة الراقية. هذا النظام يعتبر نتيجة للشكوك التي كان يعاني منها الحاكم في أواخر أيامه. وفقًا لأحمد شلبي، المؤلف المسلم المعاصر، كان الحاكم في بداية حياته شخصية محترمة وموضع احترام من قبل النخبة.ومع ذلك، تصادمت توجهاته مع الآراء السائدة في قصره وفي المجتمع بشكل غامض، على غرار حياته الشخصية كما سنرى لاحقًا. تسبب ذلك في صراع داخلي في نفس الحاكم وفي المجتمع، وتميزت وفاته بالغموض والغموض الذي يحيط به.

 

advertisement